الفصل الخامس عشر
شَعْرَةُ الجُنُوُنْ !!
"بين العبقريَّة والجنون شعرة".. هذه العبارة كنت أسمعها كثير.. كنت أعتقد أنها تعني أن العبقري قد يصل به الذكاء لدرجة خارقة ثم يُجن من كثرة ذكائه الذي لم يعد عقله يسع للمزيد منه, يوماً ما أصبحت عبقري.. لم أقول هذه الكلمة لغروري.. ولم أحكم وأتخذ رأيي الشخصي أو أي مقياس لعبقريتي.. بل كنت أبحث عن وثائقيات لعباقرة العالم الذين كنت أجد الكثير من أفعالهم وتصرفاتهم تطابق فكري بنسبة لا يستهان بها, كأن لا يمكن للعبقري أن يمر بأي شارع دون أن يعد عواميد الأضواء التي عليه.. إن لدى العباقرة تصرفات غريبة.. لست عبقريَّاً الآن.. لقد كنت يوماً ما وبقيت بتلك العبقرية قرابة الخمسة عشر عام.. كانت أحد تصرفاتي الغريبة هي حبي للأرقام.. فكنت إذا مررت بأي موقف أحببته تجدني أخرجت ورقة وأسجل تاريخ ذلك اليوم ووقت الحدث بالثانية والأسماء وعبارة تذكرني بذلك الموقف.. كنت أحب الأرقام.. بل أعشقها لأنها دليل قوي للذكرى.. غير أن نظرية بعض العباقرة أن الحياة كلها عبارة عن رياضيات.
إن تلك الشعرة ليس لفيض الذكاء.. إنما هي العذاب المُلاقيه من عامة الناس.. لأن أحداً لا يفهم فكري الذي يعتقدونه متخلف لأنني أنظر لكل الأمور من زوايا لا ينظرون من خلالها لأنها غبيَّة ومتخلفة بنظرهم.. ولا يعي الناس متطلباتي ويزدرون إهتماماتي التي ربما سيراها كل الناس من حولي سخافات وتفاهات.. كنت حينها لدي ما يمكنني إنتاجه لينال ذهول الكثير في مجالات مختلفة.. فالإبتكار عنواني الفكري لأي مجال أحببته وأريد أن يكون لي بصمتي فيه.. فكنت أبتكر وأُنتِج وأُتقن الإنتاج.. لكن لم أجد من يُقّدر إنتاجي ويدعمني لأواصل وأبقى في القمَّة.. لم تكن حياتي تسمح بأن أبقى هناك.. لم أذق طعم الإستقرار يوماً.. وعلاوة على ذلك كنت أجد العتاب من الكثير على أمور لا يحق لأحد العتب عليها, فأضطر أن أكبت مكنوناتي ولا أطلق سراحها لتواجه تحطيم وسخرية وردود فعل موجعة تحملها مشقة.
نعم لقد مرت عليَّ فترة الغرور.. لكن أنار الله لفكري نبراس معرفة ذلك لأتواضع وأتوقف عن النظر للعالم من تلك الزاوية المتكبرة, الحمدلله والشكر له.. لأنني كنت لفترة بغيض جداً لا أُطاق, لم يكن حولي أحداً يمكنه إستيعاب حديثي ليجاريني مهما كان حواري.. كنت أتحدث مع نفسي كثير جداً.. إلى مرحلة كنت فعلاً سأُجن فيها لأن حديثي مع النفس لا يشاركنيه أحد.