الفصل الخامس
اليوم الرابع
جلست ذلك اليوم أكرر المحاولة.. وفي كل مرة كانت تفشل المحاولة, إلى أن خاطبني الله بطريقة غير مباشرة وقلب حقاً جميع توجهاتي وميولي وفكري وكياني..
كانت كل أفكاري متوجهة مباشرة نحو رغبتي الناتجة عن جهل.. نحو الخلاص.. كنت أخاطب الله في خلوتي قائلاً لا أريد شيئاً منك يارب.. كل ما أتمناه منك أن تُعيدني للشئ الذي لم يكن شيئاً من الأصل.. لا أريد عذاب نارك ولا نعيم جنَّتك حتى وإن كانت لي.. كنت لفترة لا أظنها قصيرة أعبد الله لكن إعتقادي ثابت على حاله الذي ليس هو إلا إيمان وتسليم بأن الله هو أقوى مافي الوجود وأن دين الإسلام هو أكثر دين يحاكي العقل بمنطقية.. ولا يتعدى في طلباته حدود طاقة الإنسان.. ومع ذلك كنت رافضاً للفكرة, كنت أفكر أن لو كانت الفكرة صحيحة لما عشت الحياة التي عشتها في عذاب ظالم لا يرحم, كنت دائماً أردد في خلوتي أن الله لا يعلم عنِّي شئ عندما أتعثر وأسقط على الأرض ولا أستطيع النهوض.. وأن الله لا يعلم عن حاجتي ولا يعلم حدود طاقتي.. وأنني لستُ مسلماً إلا لأن الإسلام موجود في كل زاوية ولم ينسى بقعة إلا وتواجد في طياتها, وكنت معتقد جهلاً أن ليس في محاكمتي إلا ذنوب لا تُذكر ولا أستحق عليها إلا العفو.. كنت لا أشك بأن إختياري للإسلام صائباً.. لكن لست مؤمناً بأن الله يعلم عن دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء, لم يكن يهمني ما بعد الموت.. فأنا متأكد بأن الله برحمته سيلبي إحتياجي للعودة للعدم.. ولم أكن معترفاً بحياة البرزخ.. كنت أعتقد أن أي حياة ستكون أفضل من حياتي التي أحياها.. كل ما كنت أراه أن أي حياة أخرى ستكون أفضل ولن أعيش من الأصل الحياة الأخرى وأن الله سيعيدني لللا شئ, فأعتقد أن الله أحياني حياة ليس هي إلا مجرد عذاب بما فيه الكفاية.. لم تكن رغباتي واقع يوماً.. كنت أتمنى وأدعوا الله بتحقيق أمنياتي.. ولم أدعوا الله برغبتي لشئ إلا وتحقق.. لكن بعد أن أصبحتُ لا أريده ولا أحتاجه بل وأكرهه فيزداد العذاب مرارةاً.. ففقدت الأمل ولم يعد للرجاء معنى في حياتي وكأن ليس لصوتي مجيب أو حتى صدى.
إلى أن أتى ذلك اليوم.. في منتصف الليل مسكت جهازي اللوحي وكعادتي قبل أن أنام أشغِّل أي شئ لأنام على صوتُهُ, وبأمر الله سبحانه وتعالى وقع إختياري على مقطع مرئي هو المسؤول عن نقطة التحول تلك.. إتضح الأمر لي.. وفهمت أن الجسد إن خُلِق فروحه فستعيش حياة أبديَّة.. أمَّا هو فله حياة واحدة تبدأ بولادته وتنتهي باللحظة التي كتب الله أجله فيها.. وأن النوم هو في الحياة الدنيا فقط.. أما الروح فلها الحياة الأبديَّة.. وأن حياة البرزخ هي إمَّا روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حُفر النار.. والبرزخ الناس فيه على ثلاثة أحوال كما جاء في الحديث الشريف.. الحال الأول هو حال المؤمن التقي.. بعد دفن الجسد يأتيه ملكان فيقعدانه ثم يسألانه من ربك وما دينك ومن هو الرجُل الذي بُعِث فيكم ؟ فيقول ربي الله وديني الإسلا والرجل الذي بعث فينا هو محمد عليه الصلاة والسلام.. فيُفتحُ له بابٌ من النار ثم يُقال له هذا مقعدك من النار لو كفرت ثم يُغلق الباب ولا يُفتحُ بعد ذلك أبداً ثم يُفتح له بابٌ من الجنة فيأتيه من رَوْحِها ويسعد ويرى مكانه في الجنَّة فيقول ربِّي أقِم الساعة حتى يدرك المقعد ويظلُّ في نعيم في قبره حتى تقوم الساعه.. والحال الثاني حال الكافر يقعد ويُقال له من ربك وما دينك ومن هو المبعوثُ فيكم !؟ فيقول لا أدري !! فيُقال له لا دريت ولا تليت.. ثم يُضرب بمطرقة على رأسه فيصيح صيحةً يسمعها كلُّ شئ إلا الثقلان.. أي الإنس والجن.. ثم يُفتح له باب من الجنَّة ويُقال له هذا مكانك في الجنة لو كنت آمنت ثم يُغلق.. ويُفتح له باب من النار فيأتيه من ريحها وسمومها فيقول ربي لا تقم الساعة.. الحال الثالث فهو حال المؤمن العاصي فأمرهم يقف على مشيئة الله.. إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.. وقد يطهرهم الله بالعذاب من معاصيهم وبعد ذلك يُنعَّم في القبر ومن بعده الجنَّة وبعضهم يستمر تطهيرهم إلى قيام الساعة ويكون مصيرهم النار فيُكمل في عذابها ما تبقى له من معاصٍ يتطهر منها.. وكان قد خفَّف الله عليه عذاب النار بعذاب القبر.
إستوعبتُ حينها أمور كنت غافلاً عنها.. سبحان مغير الأحوال.. لقد كانت رؤيتي للحياة سوداوية لأبعد مدى ولا أرى في كل الأمور إلا اللون الأسود.. كان اللون الأسود يُخيّم على كل المواقف جليُّها وغامضها.. الآن.. لا أعلم كيف ولماذا بدأ إعجابي للون الأبيض والألوان الأخرى من بعده يطغى بل وإختفى إعجابي باللون الأسود وإضمحل وسرعان ما تلاشى, لم أكن أنتظر إلا الموت ولا أريد سواه.. الآن.. لا أحبه ولا أريده ولا أفكر به من الأصل.. وسيرته تزعجني, كنت أعتقد أن الوجود دون المال لا يساوي شئ.. الآن.. إستوعبت أن الوجود ليس مِلكاً لأحد إلا الله سبحانه وتعالى.. الجسد الذي أتحكم به ليس مِلكي ولا الروح, إستوعبت أن الحياة لا تؤخذ من الجانب المادي.. وأن مهما واجهه الجسد والروح فله جزاء لا تستطيع رؤيته العين لأن أبعاده مختلفةٌ عن أي أبعاد رآها من قبل.. وأصواته تختلف تماماً عن معنى كلمة صوت الذي تدركه أذن الإنسان في الدنيا.. ومهما بلغ وصف الجزاء فإن جماله لا يمكن لبشر الوصول لمفهومه قبل ملاقاته مهما سافر بخياله لمعقول أو لا معقول, لا أعتقد أن ما حدث في كوكب كياني يُمكن وصفه.
لقد كنت أتسائل "لماذا حبيبتي".. الآن كل ما تذكرت ما فعلَتْه لأكون على قيد الحياة أتمتم "شكراً حبيبتي والحمد لله", إستوعبت أكثر معنى الآية التي يقول الله فيها لعباده: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.. وإستوعبت كيف يجب أن تؤخذ كل الأمور في الحياة بإعتدال.. وأن الله لا يريد من الإنسان إلا إرادته وفوق ذلك يجزيه الله خيراً على أبسط إبتلاء إبتداءاً بشكَّة الإبرة وإنتهاءاً بما تنكسر كل جوارح الإنسان أمامه.